المادة    
من المعلوم أن شيخ الإسلام رحمه الله يطيل النفس جداً في تقرير المسألة التي يتعرض لها، وهذه المسألة كتب فيها فتوى طويلة سنذكرها إن شاء الله، وقد بدأ (4/350) بقوله: "فصل في المسألة المشهورة بين الناس في التفضيل بين الملائكة والناس" وختمها رحمه الله (ص:392) بقوله: "هذا ما تيسر تعليقه وأنا عجلان في ضيق من الزمان، والله المستعان!" مع هذه المناقشة العلمية ومع طول النفس في عرض الأدلة يقول: "هذا ما تيسر تعليقه وأنا عجلان..." أي: لو أنه رحمه الله كان لديه الوقت وأراد التفصيل لأتى بالعجب العجاب، ولهذا أقول: لابد أن نقتدي بهؤلاء الأئمة ونتدبر كما تدبروا، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يفقهنا في الدين كما فقههم، ولن نكون مثلهم لكن نجتهد في أن نسير على آثارهم ونقتدي بأمثالهم، فإنهم لم يكن حالهم كحالنا: إذا علم الواحد منا مسألة أو حديثاً أو التقط كلمة من محاضرة، فكأنه قد علم كل شيء، ثم يذهب يحاجج ويجادل، وقد يوالي ويعادي ويهجر على هذه الكلمة، فلننظر -من خلال التأمل في الفتوى- كيف تعرض الأدلة وكيف تبسط!
يقول: "الكلام إما أن يكون في التفضيل بين الجنس: الملك والبشر، أو بين صالحي الملك والبشر.
أما الأول وهو أن يُقال: أيما أفضل: الملائكة أو البشر؟ فهذه كلمة تحتمل أربعة أنواع" أي أن التفضيل إما أن يكون بين جنس الملائكة وجنس البشر، أو بين الصالحين والصفوة من الملائكة والبشر، أما الأول وهو أن يقال: أيهما أفضل جنس الملائكة عموماً أو جنس البشر عموماً؟ فهذه الكلمة تحتمل أربعة أنواع من الأسئلة.
  1. بطلان القول بأفضيلة آحاد البشر على الملائكة

    يقول: "النوع الأول: أن يقال: هل كل واحد من آحاد الناس أفضل من كل واحد من آحاد الملائكة؟ فهذا لا يقوله عاقل، فإن في الناس: الكفار والفجار والجاهلين والمستكبرين، والمؤمنين، وفيهم من هو مثل البهائم والأنعام السائمة، بل الأنعام أحسن حالاً من هؤلاء كما نطق بذلك القرآن في مواضع، مثل: ((إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ))[الأنفال:22] وقال تعالى: ((إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ))[الأنفال:55] وقال: ((وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ))[الأعراف:179] والدواب: جمع دابة، وهو كل ما دب في سماء وأرض من إنس وجن، وملك وبهيمة، ففي القرآن ما يدل على تفضيل البهائم على كثير من الناس في خمس آيات".
    إذاً: لا يمكن أن يقال: إن كل واحد من الناس أفضل من كل واحد من الملائكة وإلا لزم من ذلك أن تكون البهائم أفضل من الملائكة، وهذا لا يقوله عاقل.
  2. أوجه تفضيل البهائم على بعض بني آدم

    يقول: "وقد وضع ابن المرزبان كتاب: تفضيل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب "، وقد ذكر فيه أشياء لا يمكن أن تخطر على بال أحد، فقد ألف ابن المرزبان كتاباً أسماه: تفضيل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب، وما درى ابن مرزبان أنه سيأتي الروس والإنجليز والأمريكان -بالذات- فيفضلون الكلاب تفضيلاً قانونياً على الإنسان.. يموت الفرد فيوقف تركة ضخمة على أحد الكلاب، وتوضع له مقبرة خاصة، ومستشفيات ومصحات خاصة، والعالم من حولهم يموت جوعاً، ويكفي أن في نيويورك وحدها قرابة (40ألف) متشرد لا مأوى لهم ولا سكن، في حالة أحط من البهائم...
    يقول: "وقد جاء في ذلك من المأثور ما لا نستطيع إحصاءه، مثل ما في مسند أحمد : {رب مركوبة أكثر ذكراً من راكبها}. وفضل البهائم عليهم من وجوه:
    أحدها: أن البهيمة لا سبيل لها إلى كمال وصلاح أكثر مما تصنعه، والإنسان له سبيل لذلك، فإذا لم يبلغ صلاحه وكماله الذي خلق له؛ بان نقصه وخسرانه من هذا الوجه"، أي: أن البهيمة لها حدّ لا يمكن أن تتعداه.
    وهذا من الردود العلمية الواضحة على الداروينية وأشباهها القائلين بالمفاضلة بين الإنسان والحيوان، أو أن الإنسان كان حيواناً ثم تطور، وكما قال جوليان هكسلي : "يمكن أن ترتقي القطة أو الفأر أو الضفدع لتكون سيد المخلوقات محل الإنسان" هذا غير ممكن لأنه من المشاهد المعروف أن أذكى الحيوانات وأكثرها فطنة أو دهاءً كالثعلب أو الدب أو القرد لم يطور نفسه خلال القرون الطويلة على الإطلاق، فإن الثعلب مثلاً يحفر نفقاً ليسكن فيه مثلما كان يحفر أجداده من الثعالب، والقرد يسكن اليوم حيث يسكن أجداده قبل آلاف السنين، ولم يفكر في أي شيء تطويري أبداً؛ لأنه محدود عند حد معين لا يمكن أن يتعداه، أما الإنسان فأمر مقطوع به، الإنسان في أي زمان وفي أي مكان يفكر دائماً في أن يحسن ويطور أوضاعه، فتجده أول الأمر سكن في بيت مغلق، ثم بعد فترة وضع له نافذة، ثم يعلق فيه شيئاً، ثم يرسم جداره رسوماً حتى لو كان المسكن كهفاً، وكان يركب الدواب، ثم تطور فأصبح يركب السفينة، ثم تطور واخترع الطائرة، ثم هو الآن يغزو الفضاء.
    فالفرق بين الإنسان والحيوان كبير وأساسي!
    والمقصودون بالكلام السابق هم الذين لا يعلمون إلا ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون, نقول لهم: انظروا إلى الإنسان والحيوان في أي مكان، فالأخير له حد لا يتعداه.
    "وثانيها: أن البهائم لها أهواء وشهوات بحسب إحساسها وشعورها، ولم تؤت تمييزاً وفرقاناً بين ما ينفعها ويضرها، والإنسان قد أوتي ذلك، وهذا الذي يقال: الملائكة لهم عقول بلا شهوات، والبهائم لها شهوات بلا عقول، والإنسان له شهوات وعقل، فمن غلب عقله شهوته فهو أفضل من الملائكة أو مثل الملائكة، ومن غلبت شهوته عقله فالبهائم خير منه.
    وثالثها: أن هؤلاء لهم العقاب والنكال والخزي على ما يأتونه من الأعمال الخبيثة" أي: أن بني آدم إذا انحطوا وتركوا أمر الله فهم شر من البهائم، لأنهم يعاقبون، فلهم الخزي والعار والعقوبة، والبهائم غير مؤاخذة ولو أخطأت أو سرقت؛ لأنها بهائم.
    قال: "فهذا يقتل، وهذا يعاقب، وهذا يعذب ويحبس. هذا في العقوبات المشروعة. وأما العقوبات المقدرة فقوم أغرقوا، وقوم أهلكوا بأنواع العذاب، وقوم ابتلوا بالملوك الجائرة: تحريقاً وتغريقاً، وتمثيلاً وخنقاً، وعمى، والبهائم في أمان من ذلك" حتى من الابتلاءات الكونية القدرية؛ فيبتلى الناس بملوك الجور وحكام الظلم من أمثال: عبد الناصر، وشاوسكو، غورباتشوف . فهذه عقوبات من الله سبحانه وتعالى يسلطها على الشعوب إذا عصته.
    إن هذه العقوبات الربانية متكررة لكل عاص، ويظن بعض الناس أن الداء والمصيبة في هؤلاء فقط، وأنهم لو ذهبوا أو تغير النظام لصلحت الأمور، وليس كذلك، فسيأتي بعدهم من هو مثلهم حتى نتوب إلى الله، وقد قال الحسن البصري رحمه الله للقراء لما سألوه عن الخروج على الحجاج : [[لا يا أهل البصرة ! إن الحجاج عذاب من الله سلطه عليكم بذنوبكم، فلا تدفعوا عذاب الله بأيديكم وأرجلكم، بل توبوا إليه واستغفروه وتضرعوا إليه، فإن الله يقول: ((وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ))[المؤمنون:76]]] أي: تضرعوا إلى الله وتوبوا إليه يرفع ذلك عنكم، لأن الأمة الفاسقة يسلط الله عليها الظلمة، كما قال تعالى: ((فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ))[الزخرف:54].
    "والبهائم في أمان من ذلك.
    ورابعها: أن لفسقة الجن والإنس في الآخرة من الأهوال والنار والعذاب والأغلال وغير ذلك ما أمنت منه البهائم"، ولهذا إذا قيل للبهائم يوم القيامة: كوني تراباً، تمنى الكافر أن يقال له معها: كن تراباً.
    ويوم يود الظالمين لو انهم            على دربنا ضرب من الحشـرات
    قال: "وخامسها: أن البهائم جميعها مؤمنة بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، مسبحة بحمده، قانتة له": ((وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ))[الإسراء:44] "وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: {إنه ليس على وجه الأرض شيء إلا ويعلم أني رسول الله، إلا فسقة الجن والإنس!}" وفي حديث آخر: {إنه ما من يوم تشرق شمسه إلا وكل شيء يسبح الله تبارك وتعالى، إلا المردة من الجن والأغبياء من بني آدم} فكل يوم تطلع فيه الشمس فإنه يسبح الله كل شيء إلا مردة الشياطين الذين لا خير يرجى فيهم، والأغبياء من بني آدم، كمن يسهرون على المحرمات إلى قبيل الفجر ثم ينامون إلى قبيل الظهر، أو إلى ما بعد ذلك، وسموا أغبياء؛ لأن البهائم والطيور قامت وسبحت، وكل ما تحرك ودب في الكون يذكر الله، أما هم فأغبياء نيام، وإن كان بعضهم يدعي أنه صاحب عقل أو فكر.
    إذاً: هذه هي المسألة الأولى التي يقال: هل كل فرد من بني آدم أفضل من كل فرد من الملائكة؟!
  3. القول بأفضلية جنس البشر على جنس الملائكة

    "النوع الثاني: أن يقال: مجموع الناس أفضل من مجموع الملائكة من غير توزيع الأفراد" فهذا الاحتمال العقلي الثاني، ومعناه ألا ننظر إلى الأفراد مطلقاً بل نقول: مجموع الناس من مؤمن وكافر أفضل من مجموع الملائكة.
    قال: "وهذا على القول بتفضيل صالحي البشر على الملائكة فيه نظر، لا علم لي بحقيقته" ويبدو لي أن هنا نقصاً أو خطأ مطبعياً، لكن المعنى واضح العبارة، يقول: "فإنا نفضل مجموع القرن الثاني على القرن الثالث، مع علمنا أن كثيراً من أهل القرن الثالث أفضل من كثير من أهل القرن الثاني" أي: القرن الثاني لا شك أنه أفضل؛ لأنهم خير الناس بعد القرن الأول كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: {خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم} لكن هذا لا يعني أن كل أحد من القرن الثاني أفضل من كل أحد من القرن الثاني، بل لا نشك أن بعض أهل القرن الثالث أفضل من بعض أهل القرن الثالث، كالإمام أحمد والإمام الشافعي، فقد كانا أفضل من بعض العلماء الفضلاء في القرن الذي قبلهم.
  4. مقابلة الفاضل من البشر بالفاضل من الملائكة

    قال: "النوع الثالث: أنا إذا قابلنا الفاضل بالفاضل، والذي يلي الفاضل بمن يليه من الجنس الآخر، فأي القبيلين أفضل" يعني: إذا قلنا: نقابل فاضل الملائكة بفاضل بني آدم، ثم نقابل الذي يليه في الفضل من الملائكة بالذي يليه في الفضل من البشر، فكيف يكون التفضيل؟ يقول: "فهذا مع القول بتفضيل صالحي البشر يقال: لا شك أن المفضولين من الملائكة أفضل من كثير من البشر"، أي: حتى مع القول بأن فاضلي البشر أفضل من فاضلي الملائكة، يبقى أن مفضولي الملائكة أفضل بكثير من مفضولي البشر، فحينما نأخذ الصفوة من البشر يبقى الحثالة بما فيهم الفساق والعصاة، بينما إذا أخذنا الصفوة من الملائكة يبقى عباد مكرمون مطهرون. يقول: "وفاضل البشر أفضل من فاضليهم، لكن التفاوت الذي بين فاضل الطائفتين أكثر، والتفاوت بين مفضولهم هذا غير معلوم، والله أعلم بخلقه". إذاً: المفضولون من بني آدم كثيرون ومتنوعون ومختلفون، لكن في الجملة مفضول الملائكة أفضل.
  5. المفاضلة بالنظر إلى حقيقة الملك والبشر

    قال: "النوع الرابع: أن يقال: حقيقة الملك والطبيعة الملكية أفضل أم حقيقة البشر والطبيعة البشرية" فننظر إلى المسألة من حيث الحقيقة أو الماهية كما يسميها أهل المنطق، وهل الملك في حقيقته وطبيعته أفضل أم البشر؟ بغـض النظر عن آحاده وأفـراده.
    يقول: "وهذا كما أنا نعلم أن حقيقة الحي إذ هو حي أفضل من الميت"، أي: من حيث الحقيقة العامة، "وحقيقة القوة والعلم من حيث هي كذلك أفضل من حقيقة الضعف والجهل" أي: القوة أفضل من الضعف، والعلم أفضل من الجهل، "وحقيقة الذكر أفضل من حقيقة الأنثى، وحقيقة الفرس أفضل من حقيقة الحمار، وكان في نوع المفضول" لعل الصواب: وإن كان في نوع المفضول "ما هو خير من كثير من أعيان النوع الفاضل" أي: فذلك لا يعني أن الأفراد لا يتباينون، "كالحمار والفأرة والفرس الزمِن" والصواب الحمار الفاره، أي: كأن تشتري حماراً فارهاً نشيطاً خير من أن تشتري فرساً زمِناً عليلاً، ففي هذه الآحاد كان الحمار الفاره هو الأفضل، لكن من حيث الحقيقة فإن الناس كلهم متفقون على أن حقيقة الفرس أفضل.
    مثال آخر: قال: "والمرأة الصالحة مع الرجل الفاجر" فمن حيث الحقيقة فإن حقيقة الذكر أفضل من حقيقة الأنثى، لكن إذا فاضلنا امرأة صالحة تقية مؤمنة عفيفة، ورجلاً فاجراً خبيثاً سكيراً عربيداً. فلا أحد يفضل هذا الرجل على تلك المرأة، والحاصل أن العبرة ليست بالأفراد.
  6. وجه انحصار القسمة في أربعة أنواع في المفاضلة بين الملائكة والبشر

    يقول: "والوجه في انحصار القسمة في هذه الأنواع -فإن كثيراً من الكلمات المهمة تقع الفتيا فيها مختلفة والرأي مشتبهاً لفقد التمييز والتفضيل- أن كل شيء إما أن نقيده من جهة الخصوص أو العموم أو الإطلاق" هذه قاعدة عظيمة، وهي: أن كثيراً من الكلمات تقع الفتيا فيها مختلفة والرأي مشتبهاً، لفقد التمييز والتفضيل، أي بسبب أن المفتي أطلق الكلام ولم يفصل، ولهذا نجد كثيراً من الناس يتحدث في قضايا ويظن أنه قد أتى بغاية العلم، فإذا سئل عن التفصيل فقيل له: ماذا تعني بهذا؟ توقف وقال: لا أدري أن فيها تفصيلاً، فلذلك لابد أن يفقه الإنسان ما كان فيه تفصيل ويتناول كل مسألة بحسبها. قال: "فإذا قلت: بشر وملك، إما أن تريد هذا البشر الواحد فيكون خاصاً، أو جميع جنس البشر فيكون عاماً، أو تريد البشر مطلقاً مجرداً عن قيد العموم والخصوص، والقليل والكثير. والنوع الأول في التفضيل عموماً وخصوصاً، والثاني عموماً، والثالث خصوصاً، والرابع في الحقيقة المطلقة المجردة" أي: هذه الأقسام الأربعة النوع الأول منها في التفضيل عموماً وخصوصاً، والثاني في التفضيل العام، والثالث في التفضيل الخاص، والرابع في الحقيقة المطلقة المجردة أي: الماهية، بغض النظر عن الذوات والأعيان. يقول: "فنقول حينئذٍ: المسألة على هذا الوجه لست أعلم فيها مقالة سابقة مفسرة، وربما ناظر بعض الناس على تفضيل الملك، وبعضهم على تفضيل البشر، وربما اشتبهت هذه المسألة بمسألة التفضيل بين الصالح وغيره" أي: مسألتان، مسألة المفاضلة العامة، ومسألة المفاضلة بين صالحي البشر والملائكة. "لكن الذي سنح لي -والله أعلم بالصواب- أن حقيقة الملك أكمل وأرفع، وحقيقة الإنسان أسهل وأجمع. وتفسير ذلك: أننا إذا اعتبرنا الحقيقتين وصفاتهما النفسية والتبعية اللازمة الغالبة: الحياة والعلم والقدرة في اللذات والشهوات، وجدنا أولاً: خلق الملك أعظم صورة، ومحله أرفع، وحياته أشد، وعلمه أكثر، وقواه أشد، وطهارته ونزاهته أتم، ونيل مطالبه أيسر وأتم، وهو عن المنافي والمضاد أبعد، لكن تجد هذه الصفات للإنسان -بحسب حقيقته- منها أوفر حظ ونصيب من الحياة والخلق والعلم والقدرة والطهارة وغير ذلك، وله أشياء ليست للملك من إدراكه دقيق الأشياء حساً وعقلاً، وتمتعه بما يدركه ببدنه وقلبه، وهو يأكل ويشرب وينكح، ويتمنى ويتغذى ويتفكر، إلى غير ذلك من الأحوال التي لا يشاركه فيها الملك"، أي أن الحقيقة البشرية أكثر سعة وتنوعاً، والحقيقة الملكية كأنها محصورة في طهارة وفضل وعبادة محدودة، لكن الإنسان حقيقته أعم من ذلك بكثير، فهو يتزوج ويعمل ويتعبد، فهو يشارك الملائكة في صفات، وينفرد عنهم بصفات كثيرة جداً، وبعضها فضائل وكمالات لا توجد في الملك. يقول: "لكن حظ الملك من القدر المشترك بينهما أكثر، وما اشتركا فيه من الأمور أفضل بكثير مما اختص به الإنسان". فترجع المقارنة إلى أن الصفات المشتركة الملكية أكمل، لكن الإنسان أوسع فيما عدا ذلك مما لم يشتركا فيه.